معركة المنصورة الجوية – الجزء الأخير
الكاتب: عمرو البنا
أدركت القيادة الاسرائيلية أن كل موجات الهجوم الجوي قد فشلت تماما في تحقيق كل أهدافها, و أن هناك عدد كبير من الطائرات المقاتلة المصرية في الجو و أكثر من المتوقع, و قد تم صد كل الهجمات الجوية بنجاح, و الطيارين المصريين يقاتلون بكل شجاعة في كل مناطق الاشتباكات, تركت آخر طائرة إسرائيلية المجال الجوي المصري في تمام الساعة الرابعة و ثمان دقائق مساء, و بهذا تنتهي المعركة الجوية بانسحاب العدو مع استهلاك عدد كبير جدا من طائراته بدون تحقيق أي نتائج عسكرية واضحة.
باختصار فان تقييم تلك المعركة الجوية الكبيرة ليس بعدد خسائر العدو من الطائرات فقط, و ان كانت خسائره كبيرة بالطبع لكنه فكر ضعيف للتقييم ضيق الافق, فنتائج المعارك و الحروب تقاس و تقيم أولا بتحقيق أهدافها و الغرض منها, التقييم الحقيقي الفعلي عند الخبراء و القادة العسكريين يتم من عدة محاور, أهم نصر عسكري مصري تحقق في تلك المعركة الجوية هو صد هذا الهجوم الجوي الكبير بالكامل, و منع العدو نهائيا بشكل حاسم قاطع من تدمير أي مطار مصري او حتى ايقافه عن العمل و بأقل خسائر في طائراتنا, و تخيل لو كان هذا الهجوم نجح كيف سيتغير وجه تلك الحرب كلها ؟! و كيف كانت ألة الدعاية المعادية ستتحدث عنه, و قد كان هذا هو هدف العدو العسكري الرئيسي من كل ذلك, فلا تكن ساذج بل كن ذكيا يقظا و لا تخدعك جدالات و نقاشات بلغة أرقام الخسائر مهما كانت لأنها أسلوب العدو الحقير للإخفاء و التشويش على فشله و تقصيره العسكري الحقيقي الواضح للجميع و باعترافهم هم أنفسهم.
لم تحقق هذه العملية الجوية الفاشلة أي هدف عسكري له معنى واضح في سير الحرب, فلم تضرب كل طائرات العدو المهاجمة هذه أي شيء على الارض فعلا, فمعظم تشكيلات العدو تم اعتراضها مبكرا قبل الوصول لأهدافها, ايضا لم تحقق تلك الهجمات الجوية المتوالية أي نصر معنوي للطيران الاسرائيلي المهزوم و المستنزف بشده منذ بداية الحرب موزعا على جبهتين المصرية و السورية, و لم تسقط طائرات العدو تلك عدد كبير من طائراتنا برغم استخدام و استهلاك كل هذه الاعداد الضخمة من طائراته و طياريه بكثافة في هجوم واحد, و تخيل استهلاك أكثر من 150 طيار و طائرة من أفضل و أقوى أنواع الطائرات بكامل ذخيرتها لتحقيق لا شيء فالنتيجة النهائية صفر.
ايضا من النقاط الايجابية الهامه في تلك المعركة هو ظهور القوات الجوية المصرية بعد مضي أيام طويلة من الحرب الطاحنة بالتماسك الشديد و المهارة العالية, مع يقين العدو من وجود وفرة من أعداد الطائرات و الطيارين المصريين المهرة الشجعان, بالإضافة لقدرة القيادة المصرية على ادارة معارك جوية تصادمية كبيرة و بأعداد ضخمة من المقاتلات تتوزع على مساحات واسعة بسيطرة كاملة, و دون أي ارتباك او تخبط في أي خطط او قرارات, و هذا الامر تحديدا في غاية الاهمية للعدو لأنه يضع أمام القيادة عندهم وضع عسكري في غاية الصعوبة, فكيف للمصريين هذه القوة بعد مضي تسع أيام من الحرب المتواصلة.
كما فشل العدو تماما في كل أعمال الحرب الالكترونية من اعاقة و تشويش و تداخل الكتروني, سواء على الرادارات المصرية او على اتصالات الطيارين المصريين مع غرف القيادة و العمليات, فشل كبير في ايقاف او منع او حتى تعطيل مؤقت للتوجيه الجوي الارضي لمقاتلاتنا أثناء سير المعركة, هذا الفشل الكبير كان واضحا في نجاح القيادة في رصد و تتبع كل الطائرات المعادية مبكرا, و عند السيطرة و ادارة كل الاشتباكات الجوية في كل المناطق مع كل التشكيلات الجوية المصرية, و عودتها لقواعدها سالمة بدون أي أخطاء, تلك أحد ثمار الضربة الجوية الاولى التي دمرت مراكز الحرب الالكترونية القريبة للعدو في سيناء من أول يوم.
ان مشاهدات الطيارين المصريين المشاركين في المعركة تنحصر في الاشتباكات الجوية المحلية التي خاضوها بأنفسهم, مع تشكيلات معادية محددة أمامهم فقط, و ما شاهدوه من أعداد و أنواع طائرات معادية تنحصر في مناطق معاركهم فقط, و بالتالي لن يتمكن كل طيار مصري مشارك من حصر و عد و تأكيد كل الطائرات التي شاركت في المعركة سواء من الجانب المصري او الاسرائيلي, لان المعركة الجوية تبدأ بتشكيلات تتجه لمواجهة بعضها, ثم تنفصل الطائرات ليشتبك كل طيار مع طيار معادي اخر, و تتسع رقعة المعركة الجوية و مساحتها و انتشارها, بين طائرات معادية تهرب و طائرات مصرية تطاردها في كل اتجاه, و طائرة تشتعل هنا و اخرى تسقط هناك, و طيار يقفز بمظلته هنا و اخر يموت مع طائرته هناك.
لكن المشهد يتغير تماما على الارض في غرف العمليات حيث يظهر على شاشات الرادارات العدد الحقيقي للطائرات المعادية و الصديقة, و يظهر على لوحة الموقف الجوي كافة تفاصيل و تحركات و اتجاهات جميع الطائرات و التشكيلات الجوية فورا, و يتم جمع و تحليل كافة البيانات و البلاغات التي تصل من كل وسائل الانذار المبكر و نقاط المراقبة, و بالتالي يشاهد القادة على الارض الموقف بالكامل مجردا أمامهم بكل وضوح و تفصيل, و هنا امام القادة في غرف العمليات يظهر حجم المعركة الحقيقي و العدد الفعلي الكبير لطائرات الجانبين المتحاربين.
الامر الهام جدا و هو محور ما حدث, سر زيادة عدد الطائرات المصرية المشاركة في المعركة, و سبب هذا العدد الكبير نسبيا يرجع لأن الكثير من الطائرات المصرية كان ينتهي من اشتباك جوي و يعود لأقرب مطار للتزود بالوقود و اعادة التسلح ثم الاقلاع مرة اخرى بسرعة, و هذه العملية و بسبب التدريب الممتاز و الخبرة العالية و تفوق و مهارة الاطقم الارضية من مهندسين و فنيين, كانت تأخذ اعادة التسليح في المتوسط من خمس لي سبع دقائق على أقصى تقدير, فتصبح الطائرة المقاتلة (ميج-21) جاهزة للإقلاع مرة اخرى, و قد كان الطيار المصري المقاتل لا يغادر الطائرة اثناء اعادة التجهيز, بمجرد الانتهاء منها يقلع الطيار البطل مره اخرى للتصدي للعدو و المشاركة في اشتباك جوي اخر و هكذا كانت الامور, و لهذا فان كل طيار مقاتل مصري كان يهبط و يقلع من المطار اثناء القتال في مدة زمنية لا تزيد عن عشر دقائق بحد أقصى و احيانا أقل, تلك الدقائق في زمن المعارك الجوية بالطائرات الاسرع من الصوت مهمة جدا, و بالتالي كان هناك باستمرار عدد كبير من الطائرات المصرية في الجو, و تظهر على شاشات الرادار المصرية و المعادية ايضا طوال الوقت, و بالرجوع لسجلات الطيران الرسمية الموثقة لكثير من طياري (الميج-21) المصريين المشاركين في تلك المعركة, وجد ان متوسط طلعات كل طيار مقاتل في هذا اليوم بمعدل من 4 الى 5 طلعات قتالية خلال المعركة, و هذا يعتبر معدل طيران يومي عالي لطيار المقاتلات الاسرع من الصوت.
لا يمكن ان ننسى الدور المحوري الرئيسي الكبير للموجهين الجويين, انهم مايسترو المعارك الجوية, هؤلاء الرجال المهرة الجنود المجهولة خلف شاشات و اجهزة الرادار, الموجهين في غرف العمليات هم من يقوم بتوجيه التشكيلات المقاتلة في الجو لأفضل وضع مناسب لبدأ الاشتباك الجوي مع طائرات العدو, كما يقومون بتحذير الطيارين من طائرات العدو القادمة من مسافات بعيدة و التعزيزات, و تصحيح الموقف الجوي للطيارين و ارشادهم عند العودة للمطارات, كما يتم ابعاد صواريخ الدفاع الجوي عنهم حال دخولهم في مناطق عملها, و المساعدة في تمييز الطائرات الصديقة اثناء المعارك الجوية وسط الاعداد الكبيرة للطائرات المتداخلة في سماء واسعه, يكون الموقف الجوي واضح أمام الموجه على الارض فيعطي توجيهاته بدقة للطيارين في السماء عبر اللاسلكي, كما يقوم بتزويد الطيارين بكافة البيانات المطلوبة عن طائرات العدو بسرعة مثل نوع تلك الطائرات و ارتفاعها سرعتها اتجاه طيرانها و المنطقة التي تتواجد فيها, و قد كان العدو يحاول دائما إعاقة و تشويش ترددات اللاسلكي حتى يمنع الطيارين المصريين في الجو من الاستفادة ببيانات و توجيهات الموجهين لكن العدو أيضا فشل في ذلك.
في تمام الساعة العاشرة مساء بتوقيت القاهرة أصدر الراديو الرسمي (البيان رقم 39), معلنا المتحدث العسكري عن حدوث معارك جوية عديدة في ذلك اليوم فوق عدد من المطارات, و كانت أعنفها المعركة الجوية التي حدثت في شمال و شمال شرق منطقة الدلتا, و أضاف البيان أن الطيارين المصريين أسقطوا 15 طائرة معادية, و فقدوا ثلاث طائرات فقط, دون حساب طائرة إسرائيلية أسقطتها الدفاعات الجوية في قناة السويس.
في هذا الليل مساء يوم 14 اكتوبر عام 1973, خرج وزير الدفاع الاسرائيلي موشي ديان منكسرا على التليفزيون الاسرائيلي ليلقي بيان حزين قال فيه: (ان اسرائيل تخوض الان حربا لم تحارب مثلها من قبل, سواء في عام 1956 او في معارك الايام الستة عام 1967), و أضاف ديان (هذه الحرب صعبه, معارك المدرعات فيها قاسيه, و معارك الجو فيها مريره, انها حرب ثقيلة بأيامها و ثقيلة بدمائها), و منذ انتهاء معارك اليوم و راديو اسرائيل لا يذيع سواء بيانات الخسائر و الموسيقى الجنائزية.
لابد ان نذكر هنا على سبيل التكريم قادة الألوية الجوية التي تنتظم تحتها الأسراب المقاتلة التي شاركت في المعركة الجوية و هم بدون ترتيب: تحسين فؤاد صايمه قائد اللواء الجوي رقم 203, احمد عبد الرحمن نصر قائد اللواء الجوي رقم 104, نبيل شكري قائد اللواء الجوي رقم 102.
أيضا تكريم أسماء قادة الأسراب المقاتلة التي اشتركت أسرابهم في المعركة الجوية الكبرى و هم بدون ترتيب: محمد كمال الصاوي قائد السرب رقم 27, علاء شاكر قائد السرب رقم 25, أحمد أنور قائد السرب رقم 26, مصطفى حافظ قائد السرب رقم 56, عصام صادق قائد السرب رقم 42, أمير رياض قائد السرب رقم 44, مجدي كمال قائد السرب رقم 46, منير فهمي برسوم قائد السرب رقم 82, بهذا نخرج بنتيجة مفادها اشتراك ثلاث ألوية جوية في المعركة بواقع ثماني أسراب مقاتلة بطائرات (ميج-21), انطلقت من عدة قواعد جوية.
تم تغيير عيد القوات الجوية المصرية في عام 1995, حيث تغير من يوم 2 نوفمبر إلى يوم 14 أكتوبر من كل عام, تخليد لذكرى تلك المعركة الجوية العظيمة التي خاضتها القوات الجوية المصرية الباسلة فوق قطاع المنصورة و في شمال و شمال شرق دلتا مصر الحبيبة.
تحياتي عمرو البنا